yllix2

https://ylx-4.com/fullpage.php?section=General&pub=582161&ga=g

السبت، 28 أكتوبر 2017

Cree is creating better light across the world

Cree is creating better light across the world

 

click ; http://www.cree.com/

 

http://www.cree.com/

 

البلاغة العربية والفلسفة



لعل من الخير لنا أن نسبق عصر السكاكي الذي طغى فيه منطق اليونان وفلسفتهم على أذواق الناس أو بعض الناس على الأقل، فكتبوا في البلاغة –حين أتيح لهم أن يكتبوا في موضوع يمت إلى الفنون بأوثق الصلات- بالأسلوب الميتافيزيقي الذي وصل إلينا، ولعل من الخير لنا أيضا أن نبدأ البحث من عصر الجاحظ بالذات، لنتبين النشأة الأولى لأدوار البلاغة العربية التي تمخضت عن فن البيان والبديع –وقد رسم خطوطهما هذان الرجلان- (255 هـ) ثم فن البديع على يد عبد الله بن المعتز الذي ستتمخض عنه بلاغة «المعاني» عندما تتعرض فنون البيان والبديع –وقد رسم خطوطها هذان الرجلان- لطغيان الفكر اليوناني الذي سيشيع في دراسات الإسلاميين لشتى الفنون والعلوم مذهبا عقليا ونزعة فلسفية كاسحة.
ولتوضيح «العقلية الوافدة» على البيان العربي على يد جماعة من المفكرين الإسلاميين الذين أتيح لهم أن يحدقوا ثقافات مختلفة نسوق بلاغة «الإنشاء» في قسم «المعاني» الذي أسبغ عليه هؤلاء المفكرون كلمة «علم» للمناقشة والتدليل على أن البيان تعرض للتقنين الفلسفي من حيث كان يجب أن يستمد طبيعته من صميم الفن.
نحن نعلم أن القرن الثالث الهجري هو البداية التاريخية لنشأة البلاغة فنا مستقلا عن بقية العلوم في أنشط عصور التدوين، مادتها القرآن وحديث الرسول وأروع فنون القول من الشعر والنثر، وأن الجاحظ هو أول من وضع نقطة البداية في موسوعته «البيان والتبيين» في فن البيان الذي سيكون له حظ وأي حظ في مجال العمل الأدبي عند مدرسة، وفي مجالات العقل والفكر عند مدرسة ثانية، فأوضح للبيان خطوطا ذوقية تأثر بها كثير من دارسي البلاغة، كما سيتأثر آخرون بالخطوط العقلية التي سيعيشها السكاكي من بعده؛ فكان الصراع بين الذوق والفهم، وكان الصراع أيضا بين البيان من حيث هو فن، وبين «المعاني» العقلية من حيث هي فلسفة؛ أو كان الصراع بين الفن والفلسفة على وجه من الحقيقة سافر. ونشأت من نتيجة ذلك مدرستان، مدرسة الجاحظ التي نصفق لها في حرارة المعجب والتي تتلمس البلاغة في النصوص ذات البيان والأصالة العربيين، ومدرسة السكاكي هذه التي تلتمس البلاغة في التراث اليوناني الكاسح.       
كان مفهوم البلاغة حتى نهاية القرن الثالث هو البيان الذي حاول درسه الجاحظ في شيء من الأصالة والعمق، وأن «المعاني» -غير التي ستتقمص كلمة العلم فيما بعد- لم تكن موضوعا للدراسة عند مدرسة الجاحظ إلا من حيث هي روح حي للألفاظ. أما علم المعاني أو قواعد الإنشاء فقد عني به المتكلمون من أهل البلاغة، فالجاحظ هو مؤسس هذا العلم –إن جاز أن نطلق لفظة العلم على فن البلاغة- وان الذين سيأتون من بعده إنما سيسلكون سبيله في فهم البلاغة على أسس ذوقية، ولذلك كانت دراستهم منصبة على البيان والخطابة والبديع والأصوات من حيث القبح والجمال كما فعل الجاحظ من قبل. فقد تأثر به ابن قتيبة وأبو هلال العسكري وابن سنان وابن رشيق، واتخذوا من آرائه في بلاغة البيان منهجا للبحث. والجاحظ أبو البلاغة العربية ينتقد في قسوة بلاغة اليونان، بل هو ينكر أن يكون لليونان بلاغة وأنهم لم يسهموا في إنشاء بلاغة كالذي عرفه هو، وإن أنتجوا إنتاجا ما ففي ضوء الفكر وفي حدود العقل. وهو حين يسلب اليونان مادة الذوق في تراثهم إنما ينصب نفسه رأسا لمدرسة ذوقية تعنى بالفن الباني.
أما الدكتور طه حسين، فيرى انه من الهين جدا أن نلتمس الصلة بين البيان العربي الذي يعجب له الجاحظ وهو هذا البيان الأصيل الذي يستمد حرارته من الأصول العربية، وبين البيان اليوناني الذي ينكره الجاحظ في شدة. ويرى أيضا أن الجاحظ يجهل أثر كتاب «الخطابة» لأرسطو في بلاغة العرب. فالبيان العربي عنده نسيج جمعت خيوطه من أصول مختلفة. فمادته عربية أصيلة وصورته فارسية، أما «الملائمة بين أجزاء العبارة» فيونانية بحتة. فالبيان العربي إلى القرن الثالث الهجري لم يكن عربيا خالصا ولا أعجميا خالصا، وغنما كان وسطا بين ذلك. فقد ترجم كتاب الخطابة على يد حنين بن إسحاق وكان معاصرا للجاحظ، فتدارسه المعتزلة وتأثروا به وخاصة قدامة بن جعفر. 
والجرجاني أحد أقطاب المدرسة الأدبية في البلاغة لم يسلم من تأثير الخطابة الأرسطوطاليسية في كتابه «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة».
البيان في رأي الجاحظ في العبارة لا في الفكرة، ولذلك فهو يتهم مذهب أرسطو في البلاغة، ويعلل منهجه بأنه يدرس البلاغة من نواحيها الفكرية ولا يتلمس الجمال والمتعة في موطن البيان، فهي فكر قبل أن تكون بيانا، وهي أيضا عقل قبل أن تكون ذوقا، وهذا ما ستعنى به مدارس الكلام والأصول. أما الجاحظ فقد رفضه واعتبره عدوانا على الفن البياني، بالرغم من أنه قرأ كتاب الخطابة وحاول الاستفادة منه، ولكنه انتقده بإسفاف، ووصفه بأنه قواعد عقلية راكدة. فهو الذي عرف البيان ودرسه على أساس الذوق، وهو أيضا أول من وضع للفن الثاني مصطلح البديع في صورته الأولى ولم يصطلح لعلم المعاني ولم يتخذه موضوعا لدرس البلاغة، ولذا كان حظ الإنشاء معدوما في دراسات الجاحظ لأنه ليس من البيان في شيء.
وفن البديع أقدم فنون البلاغة التي سيحددها التقسيم الكلامي على يد السكاكي. فقد ظهر كتاب عبد الله بن المعتز في «البديع» سنة 274 واستقى من صميم الفن البياني مادة البديع، وبنى دراسته على الخطوط التي رسمها الجاحظ أو أستاذ المدرسة إن أردنا الدقة في التعبير. فكلاهما يرى البلاغة أصيلة في أذواق العرب، وكلاهما حاول الإبداع في إطار هذه الصالة، ولم ينشأ جديد في مجال البلاغة سوى الصناعة والمصطلحات التعليمية، لأن أساس البلاغة ليس هو البيان والبديع، وإنما هو الذوق في أصوله العربية. فابن المعتز اتخذ الشعر والنثر موضوعا لبحث فن البديع أو للإبداع في الفن، واعتمد القرآن والحديث أيضا في أصول فنه الجديد، ولم يلتمس الأصول لهذا الفن في كتب اليونان. إذن فالجاحظ مؤسس البيان، وابن المعتز مؤسس البديع وهو ظل من ظلال الفن البياني. أما المعاني كما سيدرسها السكاكي فلم يكن أصلا من أصول البلاغة العربية ولا شيئا يمس الفن من قريب أو بعيد، وإنما يجب أن نتلمس الأصالة في البيان والبديع بعد أن نسلبها كلمة «العلم» ونرفض المعاني، بل وبعض قواعد البيان كالاستعارة التي عرفت في دراسات أرسطو وكان يسميها «نقل الصورة» Image Nêtaphor وتظل البلاغة عربية خالصة أو كالخالصة حتى بداية القرن الرابع الهجري حتى ظهرت محاولة قدامة بن جعفر المتوفى سنة 337 في البلاغة، ثم محاولة أبي هلال العسكري (395). ورغم ما عرف به قدامة من نزعة فلسفية فقد ظلت الأصول العربية المادة الخام لحياة البلاغة، وظل البيان العربي الروح والمادة والشواهد، لم تؤثر فيه محاولة قدامة في وضع كثير من قواعد البلاغة وضعا عقليا. وإذا كان قدامة لم يعرض لبلاغة الإنشاء فغن أبا هلال العسكري كان حريا به أن لا يعرض لها لأنه لم يكن يعنيه من البلاغة إلا البيان الذي رسمه الجاحظ، فهو لم يتعرض للإنشاء في كتابه «الصناعتين» ولا في «ديوان المعاني» الذي حاول أن يستخلص فيه فنون الشعر والنثر، بالنقد والموازنة وإظهار الروح الجمالي في الشكل والمضمون جميعا، وقضية الفن عنده في درس البلاغة ثانوية بالنسبة للإعجاز، فهو قد اتخذ الفن وسيلة إلى تذوق بلاغة القرآن ولمس إعجازه، وقد استخدم طرق النقد والموازنة ين البليغ والوحشي من الكلام وإعداد الأديب لإدراك الجمال الفني في القرآن المعجز.
فأنت ترى أنه يسلك مسلك الجاحظ في فهم البلاغة، وهو لم يعط للمعاني وزنا مهما في التقييم البلاغي «لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي» على حد قوله، أما لبلاغة فهي في «إجادة اللفظ وصفائه» (انظر الصناعتين ص 57). وأنت ترى أيضا انه لم يدرس المعاني إلا من حيث الجدة والإبداع والرداءة والتقليد والصحة والخطأ، وهو حين ينقد المعاني في الشعر والنثر –متناقضة أو مخطوءة أو كاذبة- متأثر بقدامة ابن جعفر في منهجه للنقد، فهو لاشك قد- تأثر برواد العقل، فوضع بعض قواعد المنهج الذي سيعتمده الجرجاني، ولكنه بحث البلاغة في ضوء الصناعة اللفظية، وأن عرض للمعاني فمن ناحية نفسية لا أثر للعقل فيها.
وفي منتصف القرن الخامس ظهر الجرجاني (471) وابن رشيق وابن سنان، فحاولوا درس البلاغة على أساس ذوقي، غير أن قضية الإعجاز لونت هذه الدراسات تلوينا عقليا عند الجرجاني خاصة، فجعل الفن أيضا وسيلة لا غاية، جعله وسيلة لفهم الإعجاز وجهادا أدبيا لإحباط خصوم القرآن، وعلى هذا الأساس وضع كتابه «دلائل الإعجاز» فهو قد أطلع على كتاب الخطابة أو اطلع على موضوع «العبارة» على الأقل فكان من نتيجة ذلك أن قسم المجاز إلى مجاز لغوي ومجاز عقلي؛ ومجاز أرسطو هو الذي يسميه الجرجاني : «بالمجاز المرسل» و«الصورة» عند أرسطو أيضا هي التي يسميها بالاستعارة، فالجرجاني لم يضع لكثير من قواعد المعاني وخاصة الإنشاء، ولكنه مهد له، فقد انحطت فنون البلاغة بل فقدت مادة الذوق في بداية القرن السابع الهجري بعد أن بلغت بعض درجات الكمال في نهاية القرن الخامس ثم تجمدت، ذلك أن الجرجاني نفسه عني بالاستفهام الذي سيكون أحد أنواع الإنشاء، وأسبغ عليه –وهو يدرس أثره في الجملة لونا أشد صلة إلى الفلسفة منه إلى الفن.
وفي أوائل القرن السابع يضع السكاكي المتوفى سنة (626) للبلاغة تقسيما عقليا سيكون منهجا تعليميا لها في مختلف أدوارها، فنحن نعلم أن السكاكي كان معتزليا اتخذ الفلسفة لتدعيم مذهب الاعتزال –كما فعل غيره من الذين نقرأ عنهم في تاريخ المذاهب- وحاول أن يلخصها في كتابه «مفتاح العلوم». كان المذهب المعتزلي دعوة جريئة وسافرة في نفس الوقت لاستخلاص الثقافة الإغريقية، والاستعانة بها في ذلك الجهاد المرير الذي دار بعنف حول قضية الإعجاز. ولم يكن من السهل أن يدعو شيوخ المعتزلة إلى لون من العقيدة جديد، فتستجيب لهم الجماهير قد رسخت في عقولها وعواطفها «المعجزة»بشكل يتطلب جهادا قاسيا من الخارج تكون الفلسفة اليونانية أمضى سلاح له.
ونحن لا نشجب المعتزلة لأنهم سلطوا الفلسفة على الفن انتصارا لمذهب ما، ولا نعتبره عدوانا مبيتا، بل نعد المعتزلة رواد الحرية الفكرية في العالم الإسلامي، وإنما نحاول أن نقلب صفحة من تاريخ البلاغة العربية لا أقل ولا أكثر.
ونحن نعلم أيضا أن صراعا جدليا نشب بين بلغاء العرب وبين الرسول عشية ظهور القرآن، فجادلوه في سذاجة وبراءة فنية، وأنكروا الإعجاز في التنزيل، وأنه ليس إلا سحرا وأساطير الأولين. فكان هذا الجهاد الفني بذرة أولى لنشأة البلاغة. ولكن أية بلاغة ؟ كان حماس المعتزلة –أو بعض شيوخ المعتزلة- حارا، فكان لابد لهم وهم يواجهون خصوما أشد عصبية وإيمانا برأيهم، أن يتصدوا للدفاع عن قضية هامة تمس عقيدتهم من قريب بعد أن هاجم خصوم القرآن روح الإعجاز، ولكن هذا الدفاع اصطنع الأسلوب الفلسفي فاتخذت البلاغة في ظلاله شكلا عقليا وتنكرت للمذهب الفني، وإذا صح أن أصحاب المدرسة الكلامية إنما جرهم إلى درس البلاغة موضوع الجمال، فإننا نعلم أن الفلاسفة عالجوا مشكلة الجمال قبلا، وإن اشتدت الصلة بين البلاغة والفلسفة من ناحية، فقد ابتعدت من عدة جهات.
السكاكي قد أحكم الصلة بين البلاغة والفلسفة، وهو والمتكلمون من بعده صبغوا أبحاثهم في علم المعاني خاصة، بروح المنطق ومادة الفلسفة، ولم يبحثوا قليلا عن الحرية في موضوع تبعده المسافات والأبعاد عن المنطق إلى مذهب العاطفة المتحررة على ألف جناح من ضياء القمر.
إذن لم يكن يعني بعلم المعاني وبالإنشاء الذي نعرضه مثالا على الخصوص سوى أبي يعقوب السكاكي، فهو الذي «محص زبدة البيان ورتب أبوابه» كما يقول ابن خلدون، ولم يكن بوسع الذين جاءوا من بعده إلا أن يلخصوا آراءه في بلاغة المعاني أو قواعد الإنشاء، لأن مشكلة الإعجاز تتطلب منهم أن يتدارسوا البلاغة على نحو عقلي لتأييد نحلهم، كما اتخذ الزمخشري –وهو رأس من رؤوس المذهب المعتزلي- بلاغة العقل طريقا إلى الفلسفة، ففي عصر السكاكي انتصرت الفلسفة على البلاغة بالرغم من أن مدرسة الجاحظ ما تزال يمثلها ابن الأثير (638) فوضع السكاكي «مفتاحه» في البيان والبديع والمعاني، ولم يعرف أهل البلاغة من قبله بلاغة الإنشاء على النحو الذي عرفوا به فنون البديع والبيان، فهو ثمرة من ثمار الفلسفة، أو هو ثمرة من جهاد المعتزلة، وسنعرض له كما يراه السكاكي أو كما تراه الفلسفة على يد السكاكي.
فهو قد قسم «علم المعاني» إلى قوانين ودعا الإنشاء «قانون الطلب» ولم يسمه إنشاء، ويظهر أن هذه التسمية متأخرة كما سنراها عند الذين تأثروا بمنهجه، وهو أيضا قد رتب القانون أبوابا خمسة واصطلح لها بما هو معروف في كتب البلاغة –والذي يثيرنا إلى المناقشة هو أن الرجل عالج الموضوع بأسلوب الفلاسفة أو المتأثرين بالمنطق والفلسفة على الأقل، الإنشاء عنده لا يصح إلا في نطاق التصور وهو يتطلب فكرة غير حاصلة وقت الطلب قد تكون مثبتة وقد تكون منفية، ولكن خواطر الفكرة تمر في أذهاننا فقط، وهو أيضا قي عمق المتفلسف يسلك تقسيمات عقلية معقدة، الطلب يكون حصولين اثنين في الذهن أو في الخارج، وهذا هو مذهب المناطقة الصوريين أعمله في رقاب الفن فماتت بعض فصول القصة من حياته، وأنت تستطيع أن ترجع إلى مفتاحه في البلاغة فتجد هذه الفتنة العقلية قد آثرها ويؤثرها التلامذة من بعده، خط عرض يسير عليه الجميع، حتى النحاة أنفسهم، لون من المناقشة واحد وأمثلة آثرها السكاكي وسيعطيها التفتازاني والخطيب القزويني وابن هشام النحوي(1). هذه الفتنة سيهيم بها النحاة فيدرسون النحو على ضوئها، أو تتقمص هي شخصية النحو فيصبح منطقا للنحاة أو نحوا للمناطقة كما يسميه النقاد المعاصرين.
هذا هو السبيل الذي سلكه السكاكي في بلاغة الإنشاء، وهو بهذا قد فتح مدرسة فلسفية جديدة سيتهالك عليها الدارسون حتى وقتنا الحاضر. سيتأثر به أحد رجالات القرن السابع الهجري وهو قريب منه في المذهب والفترة التاريخية وهو أيضا معتزلي صميم، انتهى من كتابه «الأقصى القريب» في حدود 692، ذلك هو التنوخي الذي زعم أن كتابه إنما يتناول علم البيان، وهو يكاد يكون منطقا بحتا أو يشبه المنطق، وهو نفسه يعترف أن النحاة قريبو الشبه بالمناطقة في الاتجاه العقلي، فهم لا يختلفون إلا في وضع المصطلحات أحيانا، الجملة عند النحاة هي «القضية» عند المناطقة، غير أن هؤلاء يبحثون الألفاظ تابعة للمعاني وأولئك يبحثون المعاني تابعة للألفاظ، ووضع الصدق والكذب في القضية المنطقية ذات الموضوع والمحمول هو الوضع نفسه في جملة المبتدأ والخبر في النحو.
فأنت ترى أن الفلسفة قد ابتلعت البلاغة والنحو أو ابتلعت البلغاء والنحويين جميعا حتى أصبحوا يقابلون ضمير الفصل عند البصريين والعماد عند أهل الكوفة في المثال الآتي ك أنت –هو- المغربي «بالرابطة المنطقية بين الموضوع والمحمول : أنت-تكون-مغربيا» التي تختص بها اللغات الهندية الأوربية: You (are) Moroccan وتشيع مدرسة السكاكي في المناهج التعليمية عند البلاغيين أو المتكلمين على الأصح، فيظهر شيخ آخر من شيوخ البلاغة أو شيخ من شيوخ المعتزلة وهو الخطيب القزويني، فهو قد لخص رأي السكاكي في البلاغة ولم يأت بجديد يذكر، ولم يضف على قواعد السكاكي أي فيض، بل هو لم يخط بالموضوع أية خطوة، فهو قد عني بتلك الاجتهادات المذهبية التي نفض الشيخ منها كلتا يديه، سالكا سبيلا سلكه أبو المدرسة قبلا، وسيكررها السعد التفتازاني (791) في مختصره، ونحن لا نتتبع بالتفصيل طريقة السعد لأنها مجهولة وغير مفضية إلى قاعدة وفيها كثير من اللغو وكثير من التعقيد وكثير أيضا من المنطق الصوري، وإنما نشير إلى أنه درس البلاغة على نحو منطقي تمشيا مع الوحدة العامة التي آثرها المعتزلة في العقيدة وجهود البحث، فهو يعالج موضوعا في البلاغة قد عرض له بالدرس منطق الإسلاميين القدامى، ويعتبر عصر التفتازاني فترة إرساء وتجميد لقواعد الإنشاء في علم المعاني التي تسلكها المدارس التعليمية في فن البلاغة ليومنا هذا.
كانت البلاغة على عهد الجاحظ (تقوم على الدراسات التحليلية للجمال الفني في نطاق مذهب يشبه مذهب النقد أو هو النقد نفسه، لاستخلاص اللذة الفنية من جيد النصوص من ذلك الكلام الوحشي البارد، ثم هي كانت من بعد وسيلة فنية لإدراك الإعجاز أولا، ثم وسيلة منطقية لفهم هذا الإعجاز على يد المعتزلة ثانيا، ووصلت بلاغة المعاني إلى الدارسين المعاصرين كما فصلها السكاكي، فلم يحيدوا عنها بل هم قد عكفوا على نسخها –عن جازت هذه العبارة- فكان إنشاؤهم امتدادا لذلك الإنشاء الذي أرست قواعده كما قلنا مدرسة السكاكي، فهم من غير شك تلامذة لهذه المدرسة، لأنهم نحوا في فهمه ودروه هذا النحو الفلسفي، ونحن نعطي كتابي «الخواطر الحسان» و«البلاغة الواضحة» مثلا لهذه التبعية الخالصة في درس الإنشاء.
جبر ضومط المتوفى سنة 1929 من كتاب البلاغة المعاصرين، يرى أن البلاغة كانت خالصة لإعجاز القرآن أكثر من خلوصها للدب والفن، وعلى الرغم من أن هذا الرجل حاول أن يدرس البلاغة من أن هذا الرجل حاول أن يدرس البلاغة مذهبا للبيان العربي فقد سار في درس الإنشاء مثلا على الأسلوب التعليمي في إطار المنهج الذي وضعه القدامي، فالكتاب إضافة للكتب الكلامية الماضية، ورأي الرجل امتداد لآراء المدرسة. فهو يربط الصلة بين النحو والبيان والمنطق، بل هو يعترف أن هذه العلوم الثلاثة أصول مشتركة وصلات وثيقة بعضها ببعض، لأنها امتداد للثقافة الإغريقية القديمة. بل هو أيضا يسمى علماء البلاغة بالفلاسفة، فهو لم يستطع أن يتحرر من قيود المدرسة في تعريف الجملة الإنشائية. يقول : «هي ما لا يتبادر معها إلى الذهن عند أول سماعها احتمال الصدق أو الكذب، نحو : من أين أتيت؟» أنواع الإنشاء خمسة تماما كالتقسيم المدرسي. وقد زعم أن محاولته خالصة للفن البلاغي، إلا أنه ذهب مع الريح، ريح المعتزلة، فلم يملك إلا أن يسمح جهوده بمسحة كلامية، هو لا يشترط إمكان المتمنى وهذا بالضبط تعريف التفتازاني الإنسان بطبعه يحب المحال أحيانا ويركض وراء المجهول. فقد يكون هذا المحال ممكنا في هذا المثال الذي يعطيه جبر ضومط :
ليتني في المؤذنين حياتـي
               إنهم يبصرون من في السطـوح

فيشيرون أو تشير إليهـم
               بالهـوى كـل ذات دل  مليـح
فأنت ترى أنه لا يبتعد عن قواعد المدرسة طويلا، فالتمني هو طلب المحال، والمتمني محال أو كالمحال، ولكن الذي يقوده إلى التقييم الفني هو هذه الشواهد التي تتناقض مع قاعدة المحال عند رواد المدرسة.
فالمدرسة أخذت على نفسها أن تجعل البيت المشهور :
ألا ليـت الشباب يعود يومـا
               فأخبـره بما فعـل المشيـب
مقياسا لاستحالة المتمنى وفلسفته على نحو مقنع، فهو قد ترك هذا المثال الذي تستحيل معه عودة الشباب إلى هذا الإنسان الطاعن إلى مثال من أمثلة الفن البلاغي، فالشاعر يتمنى لو وقف حياته على صومعة ليبصر من في السطوح فيشير أو تشير إليه حسناء تسحب في خيلاء ذيلها العطر، فيرضى الحب لقلبه والتنسك ليدنه، ولا ضير على قلبه أن يجتمع فيه الحب والدين. فأين هو هذا المحال عند صاحب الخواطر ؟ عن لم يكن في المتناول، فهو طيع الإمكان، وهذا بالطبع جهد مرتبط بالفن يجعل قضية المحال من خرافة الميتافيزقا، وحتى عدم الإمكان عنده موضوع لأسس نفسية ما كان ينبغي للعقل أن يجمد حيويتها وحرارتها، وبالرغم من هذه الطراوة التي يصبها في خواطره الحسان فلا يوجد حاجز بينه وبين السكاكي سوى الفروق التاريخية.
ويسير على الجارم في «البلاغة الواضحة» على النحو الذي سار عليه المحدثون والقدماء، وينهج منهج المعاصرين الذين درسوا البلاغة في دورها التعليمي الناضج على أساس النزعة السكاكية، فصاحبنا يدرس الإنشاء على النحو المعروف ولم يعنه من أمر البلاغة شيء جديد سوى هذا الاختصار الذي يتطلبه كتاب تعليمي كهذا، فالهمزة عنده للتصور، وهل للتصديق، كالمناطقة الإسلاميين والمدرسيين من أهل البلاغة تماما، ولكن الذي يمتاز به هذا الكتاب هو هذه الشواهد ذات الحرة والارتعاش، التي حاولت القضاء على رواسب الخريف في قواعد السكاكي تلك المتجمدة، وبشرت ببعث أدبي جديد بتلك الخصوبة وذلك الإثراء، وهو من غير شك قد آثر الوجهة الفنية ووفق إلى حد ما، ولكنه على أية حال إن كان عربي الشواهد والعرض والاختيار فهو أعجمي القواعد والمنهج.
وبعد، أي المدرستين أجدى على البلاغة ؟ وأيهما أميل إلى البلاغة ؟ هي هذه المدرسة التي أسميناها مدرسة الجاحظ والتي لم تعط لفن الإنشاء قيمة الدرس ولا أتيح لروادها أن عالجوه في نتاجهم خلال عصور البلاغة ؟ أم مدرسة السكاكي التي عنيت بهذا الموضوع عنايتها بمختلف القواعد البلاغية كما رتبها المنهج الكلامي ؟ وما هو الإنشاء ؟ أهو فيض من الفن يضفي على حس الدارس وعاطفته الرهافة والإيحاء فيما ينتجه ويستهلكه من قول جميل ؟ أم هو قواعد عقلية  جمد المعتزلة بها دم البلاغة وشباب الفن ؟ هل هو علم أم فن ؟ وأخيرا هل الإنشاء بلاغة أم فلسفة ؟. لا نجد خصومة ما حول هذا الموضوع بالذات بين نقاد المدرستين القدامى، لأن المدرسة الأدبية لم تدرسه، بل هي لم تعرفه البتة، فهو غريب عنها، وافد عليها من ثقافة اليونان وحضارتهم عن طريق المعتزلة، وهو لا يمت إلى البلاغة بصلة من الصلات.
والمدرسة الأدبية لم تدرس الإنشاء فعلا لأنه ليس ذوقا ولا يمس الذوق من قريب أو بعيد، وهو معنى من المعاني، والمعاني موضوعها العقل، أمما الذوق البلاغي فموضوعه «الذائقة الفنية» نحن نفسر قصور المدرسة الكلامية في إبراز الفن البلاغي إلى ظاهرة غريبة، غريبة بالفعل، ولكنها كانت واقعا من الواقع، هذه الظاهرة هي أن أصحابها أعجام وافدون، ينقصم الإحساس بالجمال والطاقة التاثرية لجرس الكلمة البليغة ووقعها في السمع والعاطفة والقلب، ولذا حاولوا درس البلاغة من ناحية عقلية، وعنوا بالإنشاء في علم المعاني حين لم يوفقوا لدرس البلاغة من نواحيها الذوقية. الإنشاء في إطار علم المعاني غير عربي في منهجه لأن دراسته غير عرب، وبيئتهم غير عربية، وتجاربهم الحسية لم تتعود خصائص العربية، ولذلك عالجوها بالروح الفلسفي.
يرى ابن خلدون أن الملكة التي تؤهل الإنسان لتذوق البلاغة إنما هي في اللسان من حيث هو موضوع للتعبير.
فالبلاغة عنده ذوق وإحساس. والإعجام من الفرس والروم والبربر قليلو الحظ من هذا الذوق وذلك الإحساس، في البلاغة من حيث هي صوت وجرس وموسيقى، يقول : « إنما لهم في ذلك ملكة أخرى، وليست هي ملكة اللسان المطلوبة، ومن عوف تلك الملكة –ولعله يقصد أصحاب المدرسة العقلية- في القوانين المسطرة في الكتب فليس من تحصيل الملكة في شيء(2)».
وإذا كان الإنشاء كما قلنا معنى من المعاني فهي موجودة في كل وعاء فكري وهي : «واحدة في نفسها» وبلاغة اللغة إنما تكون في جودة الكلمة ذات الطاقة المتفجرة، واختلاف هذه الجودة قوة وضعفا وخصوبة وجدبا. ومدرسة الجاحظ لم تلتمس البلاغة في معاني الإنشاء قديما وحديثا، ولم تحاول أن تضع يدها على هذا اللون من الدراسة قديما وحديثا، لم يلتمسها الجاحظ وابن المعتز وأبو هلال العسكر قديما، ولم يلتمسها ابن الأثير في القرن السابع ولا أمين الخولي والزيات وطه حسين وابراهيم سلامة وغيرهم في العصر الحديث، وإنما التمسوها في الكلمة وبيانها وقدرتها على تصوير الأحاسيس الفتية من حيث هي إيقاعات صاخبة حينا ودافئة أحيانا، موضوعها الوجدان والعاطفة، وما دامت البلاغة فنا ذوقيا فيجب أن تستمد التغذية والحرارة من العاطفة والوجدان.
وهو ليس ببلاغة لأنه ثمرة العقل أو هو ثمرة العلم، ولأن المتكلمين والفقهاء والفلاسفة لم يتزودوا بالتغذية اللفظية أو المادة الخام، ذلك أن مصطلحات العلم والفقه والفلسفة أفقدت الباحث في موضوع البلاغة روح الإبداع، فالجرجاني لم يتعرض له في دراسة المعاني لأنه يرى البيان «أرسخ علما وأعذب وردا» وأن المذاهب الفلسفية هي التي حللت الذوق الفني في البيان العربي، وهو أيضا يتهم رواد المدرسة الكلامية يجهل خصائص البيان في الشعر حين ساء فهمهم للشعر (ديوان العرب ومورد الفصاحة).
والإنشاء في ضوء المعاني العقلية عند أبي هلال العسكري قواعد يعرفها الناس على اختلاف أجناسهم وحضارتهم فهو فوق القبح والجمال شيء يخضع للقوانين البديهية في التفكير العام. وموضوع القبح والجمال إنما يكون في الألفاظ، أما المعاني فمنسوجة وقديمة «الخلق» وإثمها على أصحاب المذهب الكلامي. (الصناعتين ص 57-69).
فالإنشاء أو علم المعاني على العبارة الصحيحة ليس من بلاغة العقل العربي، لأنه لم يدرسه الجاحظ وابن المعتز ولم يشمله منهج أبي هلال والجرجاني، ولم يكن له نصيب من جهود المعاصرين الذين يقدمون الذوق على القاعدة المقننة. هو ليس من بلاغة العرب، لأنه لا يمثل حضارتهم الفكرية، ولا يستمد أصالته من نتاجهم العربي، وإنما هو يمثل حضارة وافدة كاسحة، يمثل عقلا يونانيا ومزيجا من الفتنة، فاستنسخه الأصوليون وأهل الجدل والمناطقة، وجعلوه شيئا يشبه البلاغة.     
وعبارة «العقل» عند رواد مدرسة الجاحظ المعاصرين مبهمة غامضة الخطوط في فن البلاغة، فهي لا تفصل بن العقل والذوق، ولا بين الفكرة والكلمة، فالعرب واليونان وضعوا خطوطا فاصلة بين المنطق والفن، فجعلوا الفن من نصيب البلاغة، لأن موضوعها النفس الحساسة والقلب المتأثر المتكسر، وقد كان للبلاغة مذهبان، مذهب الفلاسفة، ومذهب البيانيين والخطباء، ولعل أول من درس البلاغة على نحو يشبه الفن –وهو غير عربي- هو عبد الله بن المقفع، فالتأثير في العقول من عمل الموهبة «المعلمة» والتأثير في القلوب من عمل الموهبة «المؤثرة» ووظيفة البلاغة هي الإقناع والمتعة من طريق الأثر النفسي ليس إلا.
فأنت ترى أن مدرسة البيان تنكر هذه الدراسة التقنينية في إطار علم المعاني الذي أشاعه السكاكي، ولم تتلمس البلاغة في الألفاظ وحدها لأنها داخلة في حيز الأصوات كما يقول ابن الأثير، فاحتجنا إلى درس اللفظية في انسياب الصوت، ونقدها في انسكاب الجرس، وربما كان الصوت فاصلا في حياة الكلمة –أي كلمة-. نحن نميل بإحساسنا ونطرب لصوت البلبل والشحرور، ونستهجن صوت اليوم والغراب، وهذا هو موضوع البلاغة بالذات، أما استخلاص المعاني فهو بالذكاء لا بتعلم العلم، فكلنا ندرس مادة ما في المدرسة ولكن واحدا ن زملائنا سيتيح له ذكاؤه الحاد في تحطيم الأرقام القياسية والتفوق علينا، ولابن الأثير رأي وجيه في هذا الموضوع(3) وكم كان بودنا أن نعرض له بالتفصيل، ولكن هذا اللون من المناقشة تضيق به حياة المقالة. إن البليغ تجيش في نفسه –لا في عقله- خواطره ومعانيه فيصبها في لفظ مطروز بالوحي، يعلم انه يرضي عاطفته وعواطف الناس حين ينقل إليهم تجربته الشعورية. والفصاحة هي المقياس الوحيد للجمال، وهي من اختصاص اللفظ المتفجر المشحون.
فطائفة الذوقين تتألف من الكتاب والشعراء والنقاد الموضوعيين، وبلاغتها هي ذلك الإنتاج العربي الخالص الذي لم يكن لدرس الإنشاء فيه أي نصيب. فهو من نصيب الأصوليين والكلاميين، والسيوطي يصف طريقتهم بأنها «طريقة العجم» أو هو تمرة للفلسفة اليونانية التي طغت على الفن، فقننته طائفة الكلام في منهجها العقلي الذي جعل البلاغة موضوعا للصحة والخطأ كالمنطق تماما. ونحن نعلم أن قواعد الصحة والخطأ من اختصاص المنطق.
وغريب منطق هذه المدرسة فأين أصالتها في منهج البحث أو أين أصالة الإنشاء في تقنيناتها المتحجرة؟ نحن ننكر أيضا أن يكون بلاغة من البلاغة أو فنا من الفن، لأنه أعجمي الأصول والمنهج، عني به أصحاب العقلية المتفلسفة في بحث المعاني على أساس المناسبة ومقتضى الحال، الذي كان شائعا عند أرسطو، منهج هؤلاء المتفلسفين في درس البلاغة لا يستمد أصوله من صميم الفن العربي. وإذا كان هذا هو موضوع البلاغة فأين هو عمل البليغ فكل جملة في هذا الوجود تفيد معنى وفائدة، وكل كلام يحمل فكرة ومعنى.
فالمنهج جامد وعتيق لا أثر للفن في بلاغته ولا أثر للبليغ من حيث هو فنان، والمنهج أيضا يقدم علم المعاني على البيان لأنه بمنزلة (المفرد من المركب) قد تكون المعاني ولا يكون البيان، والمطابقة ومقتضى الحال في خرافة هذا المنهج يقرها علم البيان. ونحن حين نقول علم المعاني أو علم البيان إنما نشوه صورة الفن في البلاغة.
وبلاغة «المعاني» لم تنشأ إلا في المناطق الشرقية للدولة الإسلامية التي تسودها العجمة. والزمخشري والسكاكي والتفتازاني أنشط أعلام هذه المدرسة وأقدرهم لإخضاع البلاغة إلى المنطق في هذه الناحية، فقد عالجوا المعاني وعالجوا البيان في نطاق الخبر والإنشاء فعقدوا أبوابا للخبر والإنشاء وجمدوهما في تقسيماتهم تلك التي قصمت ظهر الفن في البلاغة، وما زالت الطابع الوحيد لمدارسنا التعليمية حتى الآن. 



http://www.alhiwartoday.net/node/5206

الأربعاء، 25 أكتوبر 2017

تحميل كتاب البلاغة و الاسلوبية لدكتور محمد عبد المطلب

تحميل كتاب البلاغة و الاسلوبية لدكتور محمد عبد المطلب

من هنا : https://goo.gl/AtZqNx
https://goo.gl/AtZqNx

من هنا : https://goo.gl/AtZqNx

عبد القاهر الجرجاني إمام البلاغة




عبد القاهر الجرجاني إمام البلاغة

العلامة عبد القاهر معجزة عصره وفريد دهره، مؤسس علم البلاغة، نادرة عصره الذي أحدث نقلة نوعية في فهم إعجاز القرآن الكريم حين جاء بنظرية النظم، وأثبت من خلالها أن بلاغة القرآن في نظمه، وسنأتي للحديث عن ذلك، لكن ما يلفت نظرنا أن الإمام عبد القاهر الجرجاني، الذي سبق الأوائل من قبله بهذه النظرية التي برهن لها في كتابه دلائل الإعجاز، كان شاباً في ريعان شبابه حين أتى بما أتى به.
عن هذا العلامة الجليل يحدثنا د. محمد حسن قسام، واعظ أول بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي:
هو عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني أبو بكر النحوي، ولد بجرجان عام أربعمئة، وتوفي فيها عام واحد وسبعين وأربعمئة، وكان شافعي المذهب متكلماً على طريقة الأشعري، وفيه دين وتقوى، يحكى أنه دخل عليه لص وهو في الصلاة، فأخذ جميع ما وجد، والجرجاني ينظر إليه ولم يقطع صلاته، أخذ العلم عن أبي الحسين محمد الفارسي ابن أخت الشيخ أبي علي الفارسي، كما أخذ الأدب على يد القاضي الجرجاني وقرأ كتابه، وأخذ عنه العلم أحمد بن إبراهيم وغيره من العلماء، وله زهاء اثني عشر مؤلفاً في البلاغة والنحو واللغة.
البصمة
وقد كان لعبد القاهر أثر كبير، ومكانة عظيمة في تاريخ البلاغة العربية، فقد كانت البلاغة قبله عبارة عن أفكار مبعثرة ومتناثرة حتى جاء عبد القاهر، وألف كتابيه «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز» فاستطاع أن يؤسس لعلم البلاغة، وقد كانت الدراسات قبل عبد القاهر تذهب إلى أن إعجاز القرآن في الصرفة، لكن الإمام عبد القاهر ذهب إلى أن إعجاز القرآن في نظمه، وكان كتابه دلائل الإعجاز عبارة عن برهنة لما ذهب إليه، فقد كان يستشهد بالبليغ من القول شعراً أو نثراً، ويثبت أنه ما حاز البلاغة والحسن والجمال إلا لما كمل فيه من حسن النظم ورونقه وجماله؛ ليخلص من ذلك إلى أن القرآن الكريم إنما تكمن بلاغته في حسن نظمه، فلذلك اهتم عبد القاهر الجرجاني بنظرية النظم القائمة على حسن الصياغة وتوخي معاني النحو، وهي تنظر إلى العلاقة بين اللفظ والمعنى من وجهة لغوية دقيقة نتيجة التحامها وشدة اندماجها، فعرف قيمة اللفظ في النظم، وعرف طريقة تصوير المعاني على حقيقتها، فجمع بين اللفظ والمعنى، وسوى بين خصائصهما، ورأى اللفظ جسداً والمعنى روحاً يعتمد على حسن الصياغة ودقة التصوير التي نضجت في بحوثه، فاستطاع بذلك إبطال فكرة الفصل بين اللفظ والمعنى، وذهب إلى أن الفصاحة ليست صفة للفظ من حيث هو لفظ مجرد، إنما من خلال نظمه مع ما جاوره من خلال النظم، وأن قيمة المعاني تظهر من خلال التصوير وتوخي معاني النحو، وكذلك ربط بين علمي البيان والمعاني ربطاً وثيقاً، حين ذهب إلى أن جمال الاستعارة إنما يأتي بعد أن استكملت وجوه المعاني من تقديم وتأخير، وتعريف وتنكير، وإسناد.
ومن خلال ما أوجزنا ندرك فضل الإمام عبد القاهر، وندرك عظيم ما قدمه من خدمة للبلاغة والنقد، فهو يعتبر المؤسس الحقيقي لعلم البلاغة، وكذلك المبدع الأول لفكرة النظم التي كشفت عن الوجه الأعظم في إعجاز القرآن الكريم من خلال بلاغته وحسن نظمه، وقطع بذلك الجدل القائم بين العلماء، فمنهم من أرجع الحسن للفظ، ومنهم من أرجعه للمعنى؛ لأنه أشرف، حتى جاء عبد القاهر بنظرية النظم، فبين أن الحسن هو في النظم وتوخي معاني النحو، وأنه لا فضل للفظ، ولا فضل للمعنى، إنما حسن اللفظ نابع من تبعيته للنظم، فاللفظة الواحدة تكون حسنة في نظم، وهي ذاتها تكون قبيحة في نظم آخر، فدل ذلك على أن معيار الحسن والقبح، أو البلاغة وعدمها، إنما هو في نظم الكلام، ووقوع تلك اللفظة في ذلك النظم.
المصدر : http://cutt.us.com/ss90

الأربعاء، 18 أكتوبر 2017

مفهوم السرقة الشعرية عند ابن رشيق

مفهوم السرقة الشعرية عند ابن رشيق

إنجاز الدكتور محمد فتح الله مصباح

توطئة:

إن الحديث عن مفهوم السرقة الشعرية عند ابن رشيق ( ت 456 هـ)، يقتضي منا الانطلاق من بعض المداخل لعل أهمها : التحديد اللغوي للمفهوم مادام الناقد قد تجاوزه، ثم وضعه في إطاره النقدي العام سعيا وراء فهم الظاهرة في سياقها.

- فبخـصوص التحديد اللغوي:

جاء في لسان العرب : " سرق الشيء يسرقه سرقا وسرقا واسترقه (...) والاسم : السرق والسرقة بكسر الراء فيهما(...) والسرق مصدر فعل السارق (...) و السارق عند العرب : من جاء مستترا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له. فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس. فإن منع مما في يديه فهو غاصب".
يتبين من خلال هذا النص، أن لمفهوم السرقة، في معناه اللغوي العام ثلاث دلالات:
أولها : أن يأتي السارق إلى حرز- أي ما كان حصينا مصونا- فيأخذ منه ما ليس له في تستر فيسمى حينئذ سارقا.
ثانيها: أن يأتي السارق إلى حرز ظاهر، ثم يأخذ منه ما ليس له طبعا، فيسمى حينئذ مختلسا ومنتهبا ومحترسا .
ثالثها: أن يأخذ السارق ما في يد غيره قهرا وظلما وعدوانا، ويمنعه منه، فيسمى حينئذ غاصبا.
وبناء عليه يتضح أن مفهوم السرقة لغويا يستوعب مجموعة من المفاهيم الصغرى التي تدخل في سياقه الدلالي، وتكشف عن مختلف حالاته ما بين خفاء وتجل، وترصد وإصرار. ويبدو كذلك أن النقاد العرب القدامى قد استلهموا هذا الأصل اللغوي وادمجوه في سياق تحديد اتهم الاصطلاحية لمفهوم السرقة الشعرية كما سنلاحظ ذلك لاحقا.

- أما بخصوص الإطار النقدي العام للمفهوم:

فيتحدد هذا الإطار ضمن انشغالات النقد العربي القديم وفي سياق قضاياه وإشكالاته وأسئلة الإبداع فيه ومبادئه الكبرى، كمبدإ اللياقة الأدبية والأخلاقية، ومبدإ الجودة المثالية، ومشكلة الأصالة والانتحال، ومشكلة القدم والحداثة، وما ترتب عن ذلك من قضايا كقضية اللفظ والمعنى، والمطبوع والمصنوع، وعمود الشعر، وغيرها من القضايا التي شغلت حيزا كبيرا من اهتمامات النقد والنقاد العرب القدامى، واتخذوها أدوات إجرائية لتقويم الشعر، والموازنة والمفاضلة بين الشعراء والحكم أو التعصب لشاعر على حساب شاعر آخر أو لطريقة على حساب أخرى.
ومن خلال التأمل في كل تلك القضايا والإشكالات والمبادئ، نجد أن بعضها ارتبط بجوهر الشعر والرسالة الشعرية لفظا ومعنى، وارتبط بعضها الآخر بمتغيرات أخرى غير شعرية، لكن لها دخلا مباشرا في عملية الإبداع، كمتغير الزمن وما يرافقه من تحولات حضارية، وكمتغير المبدع والمتلقي بكل خلفياتهما النفسية والثقافية والاجتماعية والذهنية.
وبناء على هذه المعطيات، فإن بحث النقد العربي القديم في مفهوم السرقة الشعرية، كان مشحونا بكل تلك القضايا والإشكالات والمبادئ، كما أنه لم يكن مجرد بحث في تعالق النصوص فيما بينها وتفاعلها بشكل مغلق، بل كان بحثا تداوليا يناقش حوار النصوص، ويستحضر مبدعيها، كما كان يستحضر زمن الحوار والطريقة التي تم بها هذا الحوار، دون إغفال للسلطة الأدبية التي يتمتع بها الشاعر " السارق" والشاعر " المسروق منه".
ولعل من أهم الأعلام الذين ناقشوا هذه القضية وساهموا في إرساء قواعدها سواء في مراحلها الأولى أم في مراحل نضجها نذكر تمثيلا لا حصرا:
- محمد بن سلام الجمحي ( ت.232هـ) في حديثه عن قضية الانتحال.
- محمد بن أحمد ابن طباطبا (ت.322هـ) في سياق الحديث عن محنة الشاعر المحدث، ومحاولة البحث عن حل تلك المحنة.
- الحسن بن بشر الآمدي ( ت. 370هـ) في موازنته بين الطائيين قطبي القدم والحداثة في عصره.
- محمد بن الحسن الحاتمي ( ت. 388هـ) في سياق مشروعه النقدي لإرساء القواعد والمصطلحات السابقة في الشعر.
- القاضي عبد العزيز الجرجاني ( ت.392هـ) في سياق المساهمة في المعركة النقدية حول المتنبي، والتدخل فيها من منطلق الناقد الموضوعي والحكم العدل.
- الحسن بن رشيق القيرواني ( ت. 456هـ) الذي حاول أن يستفيد مما قيل في موضوع الأدب والنقد من قبل من سبقوه، فاختار من أقوالهم ما صح لديه.
- حازم القرطاجي ( ت. 684هـ) الذي تعرض هو الآخر لمفهوم السرقة في " منهاجه" ضمن المعلم الدال على طرق العلم بأنحاء النظر في المعاني من حيث تكون قديمة متداولة أو جديدة مخترعة.
ونكتفي بالإشارة إلى هؤلاء الأعلام، علما بأن غيرهم كثير، وبخاصة من تخصص في الموضوع وجعل كتابه ينصب على سرقات شاعر بعينه. إلا أن الذي يهمنا الآن من بين أولئك جميعا هو ابن رشيق. وهنا تطرح عدة أسئلة لعل أهمها: ما هو مفهوم السرقة الشعرية عنده؟ وكيف عالج هذا الموضوع؟ وما هي تصوراته النقدية حوله؟..
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة بشكل من الأشكال، نود الإشارة إلى أن ابن رشيق عالج مفهوم السرقة الشعرية في مصدرين هما : " العمدة في محاسن الشعر وآدابه" و" قراضة الذهب في نقد أشعار العرب". ويتميز الكتاب الأول بكونه عاما في موضوع الأدب والنقد، كما هو معلوم، أما الثاني فخاص في مجال من مجالات الممارسة النقدية وهو السرقة الشعرية. ومع ذلك فإن لكل منهما ميزته بخصوص موضوعنا:
- ففي " العمدة "، كان ابن رشيق ينظر للسرقة ويعرف بها وبأنواعها وبما يجوز فيها وبما لا يجوز بشكل علمي وتعليمي، بحيث يتعرض للمصطلح ويعرفه بالحد والمثال، تقريبا للفهم والإفهام، من غير إخلال أو تكرار.
- أما في " قراضة الذهب" فقد انتقل من التنظير إلى التطبيق من غير الاهتمام بالتقصي والإحاطة مادام قد قام بذلك في الكتاب الأول. وقد أشار ابن رشيق إلى ذلك في سياق الحديث عن ضروب الأخذ والسرقة فقال : " وأنا ذاكر منها ما أمكن وتيسر، إذ ليست هذه الرسالة موضع استقصاء وقد فرغت في كتاب " العمدة " مما تراه أو أكثر" .
وتأسيسا على هذا المعطى فإننا سنركز في دراسة موضوع السرقة الشعرية عند ابن رشيق على كتاب "العمدة" ثم نجعل " القراضة" دعما للأول متى دعت الضرورة إلى ذلك. وهكذا بالرجوع إلى كتاب " العمدة"، نجد القيرواني يمهد لموضوعه، ضمن باب السرقات، بمقدمات تأسيسية نرى من الأفيد الوقوف عندها.

1- المقدمات التمهيدية لموضوع السرقة الشعرية عند ابن رشيق

وضع ابن رشيق ثلاث مقدمات تمهيدية للموضوع حدد فيها طبيعة هذه السرقات في علاقتها مع عملية الإبداع والمبدع، كما حدد أهميتها في الممارسة النقدية. وحتى يكتسي البحث في هذا الموضوع، مواصفات العلمية والأجرأة كان لابد من أن يعرج الناقد على مسألة وضع المصطلح. وهذا ما سنوضحه من خلال عرض هذه المقدمات.

1 -1 طبيعة السرقة الشعرية:

يفتتح ابن رشيق دراسته لمفهوم السرقة الشعرية بقوله:
" وهذا باب متسع جدا، لا يقدر أحد من الشعراء أن يدعي السلامة منه، وفيه أشياء غامضة إلا على البصير الحاذق بالصناعة، وأخر فاضحة لا تخفى على الجاهل المغفل"
ينبني هذا القول على مسلمتين نقديتين هما :
أولا : إن الفعل الإبداعي لا يتأسس من فراغ ولا يخلق من عدم، فهو فعل تراكمي، وحوار مستمر بين المبدعين. وعليه لا يمكن لأي شاعر أن يدعي غير ذلك. ولئن عبر ابن رشيق عن هذه المسلمة بشيء من الاقتضاب والتلميح في " العمدة"، فقد كان واضحا وصريحا في " القراضة" حين قال:
" والشاعر يورد لفظا لمعنى فيفتح به لصاحبه معنى سواه لولاه لم ينفتح"
وقال في موضع آخر:
" وقد علمنا أن الكلام من الكلام مأخوذ وبه متعلق" .
ومعنى هذا كله أن الكلام بعضه من بعض وأنه يفتح بعضه بعضا.
ثانيا: إن هذه العملية الحوارية بين النصوص ومبدعيها لا تكون على وثيرة واحدة. فقد تكون خفية غامضة بحيث لا يكتشفها إلا الناقد الحاذق في صناعته، وقد تكون واضحة للعيان حتى بالنسبة للجاهل المغفل.
وبالنظر إلى هاتين المسلمتين يتبين أن تفكير ابن رشيق ينم عن وعي نقدي كبير، وبإدراك تام لدور الحوارية في تأسيس العمل الإبداعي، وللأشكال المختلفة التي تبرز فيها هذه الحوارية. لكن بشرط أن يكون الشاعر في ذلك، وسطيا، فلا يعتمد عليها بشكل كلي، كما لا يطرحها بشكل كلي أيضا. وللتعبير عن هذا الموقف اختار ابن رشيق رأي أستاذه عبد الكريم النهشلي حين قال:" واتكال الشاعر على السرقة بلاده وعجز، وتركه كل معنى سبق إليه جهل. ولكن المختار له عندي أواسط الحالات".

1-2 في أهمية باب السرقات الشعرية ضمن الممارسة النقدية:

وتبعا للمقدمة الأولى يغدو من الواجب على ناقد الإبداع أن يكون على وعي تام بحوارية النصوص وتفاعلها أثناء ممارسته النقدية سواء أراد أن يكون متتبعا للإبداع وتطور صوره ومعالمه كما نفهم ذلك من عمل ابن رشيق في " قراضة الذهب"، أم أراد أن يقوم النصوص أو يصدر الأحكام المعيارية بخصوص الإبداع والمبدعين، ثم يضعهم ضمن سلم أو درجة من درجات الإجادة والإبداع كما في " العمدة " و" القراضة" معا.
وبالنظر إلى هذه المعطيات تتحدد أهمية هذا الباب بالنسبة للناقد، وتتحدد كفاياته وقدراته المهنية . وهنا يتبنى ابن رشيق رأي القاضي عبد العزيز الجرجاني(ت. 392هـ)، إذ يعتبره أصح مذهبا وأكثر تحقيقا في الموضوع حين قال :
" ولست تعد من جهابذة الكلام، ولا من نقاد الشعر حتى تميز بين أصنافه وأقسامه، وتحيط علما برتبه ومنازله، فتفصل بين السرق الغصب والإغارة والاختلاس. وتعرف الإلمام من الملاحظة وتفرق بين المشترك الذي لا يجوز إدعاء السرقة فيه والمبتذل الذي ليس واحد أحق به من الآخر وبين المختص الذي حازه المبتدئ فملكه واجتباه السابق فاقتطعه" .
وهكذا يتبين أن تطرق الناقد العربي القديم لباب السرقة الشعرية له ما يبرره داخل العملية الإبداعية، وأن عمله هذا ليس من فضل الكلام، ولا من باب العرف الجاري في النقد العربي القديم حتى يطرح جانبا، كما ذهب إلى ذلك إحسان عباس حين تعرض للسرقة الشعرية عند الآمدي والجرجاني فقـــال :
" وكان حقيقيا بهذين الناقدين الكبيرين أن يطرحا هذا الموضوع من أبواب النقد، ولكنهما انساقا وراء العرف الجاري" .

1-3 في بيان موقف ابن رشيق من مصطلحات الحاتمي في السرقة الشعرية:

من المعلوم أن منهج ابن رشيق في التأليف يعتمد على مبدإ الجمع والتصرف والانتقاء لأحسن ما قاله العلماء والنقاد في موضوع الأدب والنقد، مع الحرص على الضبط والتحقيق والتقويم . وعليه عندما أراد تحديد أنواع السرقات عاد إلى الحاتمي في " حلية المحاضرة" وحاول أن يستفيد من مصطلحاته في الموضوع بوعي نقدي لا يخلو من تأمل، يتجلى ذلك في قوله: " وقد أتى الحاتمي في " حلية المحاضرة" بألقاب محدثة تدبرتها ليس لها محصول إذا حققت : كالاصطراف والاجتلاب، والانتحال، والاهتدام، والإغارة، والمرافدة، والاستلحاق، وكلها قريب من قريب. وقد استعمل بعضها في مكان بعض غير أني ذاكرها على ما خيلت فيما بعد" .
وبالتأمل في هذا النص، نجد أن لابن رشيق موقفين تجاه مصطلحات / ألقاب الحاتمي:
- الموقف الأول سلبي يحكم على تلك المصطلحات بانتفاء المحصول والتقارب الدلالي واستعمال بعضها مكان بعض. ومعنى ذلك أن هذه المصطلحات غير دقيقة وغير قادرة على تحمل دلالات محددة ومميزة، وبالتالي فهي لا تتوفر على الكفاية العلمية في وصف الظاهرة التي ترتبط بها. والأصل في الاصطلاح أن يستعمل " غالبا في العلم الذي تحصل معلوماته بالنظر والاستدلال" .




- أما الموقف الثاني فإيجابي، ينسخ الموقف الأول، فيقرر ابن رشيق ذكر تلك المصطلحات على ما خيل فيما بعد. وهنا يصبح من الضروري الوقوف عند معنى ( خيل) حتى نفهم جيدا موقف ابن رشيق.
جاء في لسان العرب : " خال الشيء يخال خيلا وخيلة وخيلة وخالا وخيلا وخيلانا ومخالة ومخيلة وخيلولة : ظنه، وفي المثل من يسمع يخل أي يظن (...) وخيل فيه الخير وتخيله : ظنه وتفرسه، وخيل عليه شبه(...) وفلان يمضي على المخيل أي على ما خيلت أي ما شبهت يعني على غرر من غير يقين، وقد يأتي خلت بمعنى علمت" .
من خلال هذا النص يتبين أن فعل " خال" و" خيل" يأتي بمعنى ظن وشبه على غرر من غير يقين، وقد يأتي بمعنى علم. وبناء عليه يمكن فهم كلام ابن رشيق على مستويين:
- المستوى الأول : هو انه سيذكر مصطلحات الحاتمي على سبيل الاتباع بالظن ومن غير يقين.
- أما المستوى الثاني : فهو أنه سيذكر تلك المصطلحات بعد ما جعل بينه وبينها مسافة زمنية أعمل فيها النظر فصحت عنده علما ويقينا. ومن ثم فهو ذاكرها على سبيل اليقين والاقتناع.




ونحن نرجح المستوى الثاني مادام ابن رشيق قد أورد تلك المصطلحات، وحاول أن يتصرف فيها ويضع لها حدودا حتى يتميز بعضها عن بعض، ويصبح لكل مصطلح كفاية علمية في وصف جانب محدد أو حالة من حالات الظاهرة، مراعيا في ذلك الفروقات الدقيقة بين الأنواع المتقاربة أو المتفرع بعضها عن بعض.

2- التحديد الاصطلاحي لمفهوم السرقة الشعرية:

بعدما وضع ابن رشيق مقدماته الثلاث بين يدي قارئه، حاول أن يقدم له تعريفا اصطلاحيا لمفهوم السرقة. وبالطبع فنحن لا ننتظر منه بناء تحديد شخصي، بل إيراد تعريف جاهز لأحد شيوخه أو أساتذته، وما هذا الشيخ إلا الأستاذ عبد الكريم النهشلي ، فقال :" قال عبد الكريم: قالوا السرق في الشعر ما نقل معناه دون لفظه، وأبعد في أخذه، على أن من الناس من بعد ذهنه إلا عن مثل بيت امرئ القيس وطرفة حين لم يختلفا إلا في القافية، فقال أحدهما" وتحمل" وقال الآخر " وتجلد" ومنهم من يحتاج إلى دليل من اللفظ مع المعنى، ويكون الغامض بمنزلة الظاهر وهم قليل.
والسرق أيضا إنما هو في البديع المخترع الذي يختص به شاعر، لا في المعاني المشتركة التي هي جارية في عاداتهم ومستعملة في أمثالهم ومحاوراتهم، مما ترتفع الظنة فيه عن الذي يورده أن يقال أنه أخذه من غير" .
وبالنظر في هذا النص نلاحظ أن فعل " السرق" لم يحدد لغويا، وإنما حدد مباشرة في سياقه الاصطلاحي الشعري النقدي. وفي إطار هذا التحديد أيضا نلاحظ أن هذا الفعل انتقلت دلالته من دلالة لغوية أخلاقية إلى دلالة اصطلاحية عبر عنها النص بفعلين آخرين هما : فعلا " النقل" و " الأخذ" عند قوله : " السرق في الشعر ما نقل معناه دون لفظه وأبعد في أخذه". وهذان الفعلان يذكراننا بفعل آخر استعمله الحاتمي وهو فعل " استعار" الذي يورده في بعض السياقات بمعنى الأخذ و " الاجتذاب" دون معناه البياني .
وبناء على هذا التحليل تكون السرقة نقلا وأخذا واستعارة واجتلابا، ويبقى السؤال بعدئذ فيم يكون هذا النقل والأخذ؟
بالرجوع إلى النص، نجد أن الفقرة الأولى منه تحصر السرقة في المعاني دون الألفاظ مع اشتراط الإبعاد في الأخذ، لأن من شأن ذلك أن يخفي السرقة ويجعلها غامضة. وهذا هوا رأي الجمهور: بينما يوجد صنف آخر من الناس، وهم قلة، يضعون الغامض والظاهر على حد سواء، ويحتاجون إلى دليل من اللفظ والمعنى لرصد هذا الأخذ.
أما في الفقرة الثانية، فتنحصر السرقة في البديع المخترع الذي يختص به الشاعر، لا في المعاني المشتركة الجارية في العادات والمستعملة في الأمثال والمحاورات. إلا أن مفهوم البديع هنا يبقى مبهما إلى حد ما. لكنه إبهام سرعان ما يزول إذا عدنا إلى ( قراضة الذهب)، حيث نجد ابن رشيق، في سياق حديثه عن كثرة التأليف في السرقة، يقول : " غير أن أهل التحصيل مجمعون من ذلك على أن السرقة إنما تقع في البديع النادر والخارج عن العادة وذلك في العبارات التي هي الألفاظ"
فنتبين حينئذ من هذا النص أن المقصود بالبديع هو النادر الخارج عن العادة في العبارات/الألفاظ. وعليه فإن السرقة عند ابن رشيق تكون في المعاني كما تكون في الألفاظ. لكن ليس في كل المعاني والألفاظ، إذ هي أنواع ومراتب. ولا تكون السرقة فيما كان منها متداولا ومشاعا، وإنما في النادر منها والخاص. وهذا ما سنتبينه من خلال الحديث عن أنواع السرقات، وبعدها المعايير النقدية بخصوص جودة السرقة أو رداءتها.

3- أنواع السرقات الشعرية ومنهجية تصنيفها عند ابن رشيق:

لقد جمع ابن رشيق في " عمدته " ما يقارب عشرين مصطلحا في وصف أنواع السرقات الشعرية. فذكرها جملة في البداية، مع الحرص على وضع حدود لها وتبيان الفروق بين المتقارب منها. ثم عرج، بعد ذلك، على التفصيل والتمثيل لكل نوع منها على حدة.
وإذا حاولنا أن نتأمل طريقة بسط الناقد لهذه المصطلحات، سنلاحظ أنه كان يشتغل وفق نسق منهجي، ويعرض مصطلحاته في السرقة ضمنه. والواقع انه نسق غير مصرح به، وإنما يستنتج بالتأمل والنظر في عرض تلك المصطلحات. وهذا ما سنعمل على توضيحه من خلال العناوين الفرعية الآتية:

3-1 أنواع السرقات الشعرية الشاملة للفظ والمعنى معا:

وهذه الأنواع هي : الاصطراف، ويتفرع إلى اجتلاب أو استلحاق، وإلى انتحال، ثم الإغارة، فالغصب، فالمرافدة. وفي هذه الأنواع جميعا ، يكون النص المسروق حاضرا بعينه لفظا ومعنى في منتوج الشاعر " السارق" والشاعر " المسروق منه". وتتحدد الفروقات بين هذه الأنواع من السرقة بالرجوع إلى السياق التداولي الذي تمت فيه هذه العملية، مع التركيز على مراعاة مقصديه الشاعر " السارق" والسلطة الأدبية لكل من الشاعرين المتحاورين.
ففي إطار الاصطراف يعمد الشاعر إلى شعر غيره فيجتلبه أو يستلحقه على جهة المثل دون نية الانتحال أو الإغارة أو الغصب. ومثال ذلك قول زياد الأعجم :

أشم إذا جئت للعـرف طالبـــا حباك بما تحوي عليه أنامله
ولو لم يكن في كفه غير نفسه لجــاد بها فليتق الله سـائله

ويروى هذا لأخت يزيد بن الطثرية، واستلحق البيت الأخير أبو تمام فهو في شعره .
بينما في الإغارة والغصب تتدخل نية الأخذ العمد عنوة واغتصابا، والامتياز يكون في هذه الحال للشاعر السارق متى كان يفوق الشاعر المسروق منه سلطة أدبية واجتماعية كما صنع الفرزدق بجميل وبالشمردل اليربوعي ، إذ أغار على الأول في قوله :

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا.

فقال متى كان الملك في بني عذرة؟ إنما هو في مضر وأنا شاعرها، فغلب الفرزدق على البيت، ولم يتركه جميل ولا أسقطه من شعره .
أما مع الشمردل : فقد اغتصب منه قوله:
فما بين من لم يعط سمعا وطاعة وبين تميم غير حز الحلاقـم

فقال الفرزدق: والله لتدعنه أو لتدعن عرضك، فقال خذه لا بارك الله لك فيه .
هذه إذن مجرد نماذج توضح شكلا من أشكال السرقة الشعرية التي يجهز فيها الشاعر على شعر غيره لفظا ومعنى بقصد وإكراه، بينما هناك شكل آخر تحضر فيه القصدية لكن دون إكراه، وذلك في " المرافدة" حين يعين الشاعر صاحبه بالأبيات يهبها له، كما قال جرير لذي الرمة : أنشدني ما قلت لهشام المرئي، فانشده قصيدته:

نبت عيناك عن طلل بحزوى محته الريح وامتنح القطـــارا

فقال ألا أعينك ؟ قال بلى بأمي وأبي، فقال له:

يعد الناسبون إلى تميـــم بيوت المجد أربعة كبـــارا
يعدون الرباب وآل سعد وعمرا ثم حنظلة الخيـــارا
ويهلك بينها المرئي لغوا كما ألفيت في الدية الحوارا

فلقيه الفرزدق فاستنشده، فلما بلغ هذه قال : جيد، أعده، فأعاده، فقال : كلا والله، لقد علكهن من هو أشد لحيين منك: هذا شعر ابن المراغة
يتبين من خلال ما تقدم أن في الإغارة والغصب تكون السلطة الأدبية للشاعر السارق أكبر من سلطة الشاعر المسروق منه، بينما في المرافدة يقع العكس. وتظل تلك الأبيات المسترفدة شاهدة على قائلها الأصلي وحاملة لبصماته يعرفها أرباب الصناعة.

3-2 نوع السرقة التي تكتفي بأخذ اللفظ والمعنى من القسيم الأول والتصرف في الثاني:

ويمثل هذا النوع، عند ابن رشيق، مصطلح واحد هو " الاهتدام"، ويذكر من نماذجه قول النجاشي :

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ورجل رمت بها يد الحدثان

فأخذ كثير القسيم الأول واهتدم باقي البيت، فجاء المعنى في غير اللفظ فقال:
*ورجل رمى فيها الزمان فشلت*

3-3 أنواع السرقة التي تكتفي بأخذ المعنى دون اللفظ:

ويمثل هذا النوع ثلاثة مصطلحات هي : النظر والملاحظة، فالإلمام، فالاختلاس.
- ففي النوع الأول يتساوى المعنيان دون اللفظ ويخفى الأخذ. ومن ذلك قول مهلهل:
أنبضوا معجس القسي وأبرقــــــــنا كما توعد الفحول الفحولا
نظر إليه زهير بقوله:
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا

- وفي نوع الإلمام نجد قول أبي الشيص :
* أجد الملامة في هواك لذيذة*
فقال فيه أبو الطيب المتنبي:
* أأحبــه وأحب فيه مـلامــــة*

- أما نوع الاختلاس، ويسمى أيضا نقل المعنى، فمثل قول أبي نواس في المدح:
ملك تصور في القلوب مثاله فكأنه لم يخل منه مكان

اختلسه من قول كثير في الغزل حين قال:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل

3-4 أنواع السرقة المتعلقة ببنية الكلام:

ذكر منها ابن رشيق نوعين هما : الموازنة والعكس:
ففي الموازنة نجد مثلا قول كثير:
تقول مرضنا فما عدتنا وكيف يعود مريض مريضا؟

فوازنه في القسم الآخر قول نابغة تغلب:
بخلنا لبخلك قد تعلمين وكيف يعيب بخيل بخيلا؟

أما في نوع العكس فيحتفظ الشاعر الثاني بالبنية نفسها عند الشاعر الأول مع عكس كل لفظة مع أخرى. وقد مثل ابن رشيق لهذا النوع بثلاثة أبيات نسبها لأبي قيس وكذلك لأبي حفص البصري، لكنه لم يذكر الأبيات المسروقة ولا قائلها .

3-5 أنواع مختلفة ومتفرقة من السرقة الشعرية:

وهذه الأنواع هي المرافدة، والالتقاط، والتلفيق أو الاجتذاب والتركيب كما يسميه البعض، وحسن الاقتداء، وسوء الاتباع، وتقصير الآخذ عن المأخوذ، واشتراك اللفظ المتعارف، ونظم النثر، وحل الشعر.
والحقيقة أن هذه التسميات، في أغلبها، لا تقف عند حدود وصف جانب محدد من الظاهرة المدروسة، بل هي مواقف نقدية تضم مقاييس معيارية أو أحكام بخصوص جودة السرقة أو رداءتها، وما يعتبر منها فعلا سرقة وما لا يعتبر كذلك. وعليه فهي أحق بأن تعالج ضمن عنوان آخر كبير هو :

المقاييس والأحكام النقدية بخصوص السرقة الشعرية:

لقد مر بنا، ضمن المقدمات الثلاث التي وضعها ابن رشيق لدراسته في باب السرقات، أنه مؤمن بأن الإبداع تراكم مستمر، وليس كله خلقا من عدم، ورأينا كذلك في مفهومه للسرقة الشعرية أن الشاعر لا يعد سارقا إذا تصرف في المعاني الشائعة والألفاظ الجارية، وإنما يعد كذلك إذا تعرض لمعنى خاص أو للفظ بديع، ويؤكد ابن رشيق هذا المعنى صراحة بقوله:
" إن أهل التحصيل مجمعون (...) على أن السرقة إنما تقع في البديع النادر والخارج عن العادة، وذلك في العبارات التي هي الألفاظ(...) لا ما كان الناس فيه شرعا واحدا من مستعمل اللفظ الجاري على عاداتهم وعلى ألسنتهم، وكذلك من المعاني الظاهرة المعتادة فإنها معرضة للإفهام، متسلطة على فكر الأنام. ومن هنا قل اختراع المعاني، وقلت السرقات فيها، وصارت إذا وقعت أشهر" .
ومن هذا المنطلق أخرج ابن رشيق من باب السرقة، كثيرا من الصور التي يعتقد أنها سرقة، وهي في الحقيقة غير ذلك. وحقق في أخرى وأبرز مكامن السرقة، ومدى إجادة الشعراء أو تقصيرهم فيها، معتمدا في كل ذلك على مقاييس واضحة وصريحة في أغلبها، نتبين ذلك من خلال الآتي:

4-1 الصور التي تعد سرقة وهي ليست بسرقة:

4-1-1 المواردة:

والمواردة ، كما في الاصطلاح البلاغي والنقدي، هي :" أن يتوارد الشاعران على بيت، أو بعض بيت بلفظه ومعناه، فإن كان أحدهما أقدم من الآخر وأعلى رتبة في النظم حكم له بالسبق، وإلا فإن لكل منهما ما نظمه كما جرى لامرئ القيس وطرفة بن العبد في معلقتيهما، وهو قول امرئ القيس:

وقوفا بها صحبي علي مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجمل

قال طرفة : أسى وتجلد، فلما تنافسا في ذلك وأحضر طرفة بن العبد خطوط أهل بلده في أي يوم نظم هذا البيت، كان اليوم الذي نظما فيه واحدا ".
وقف ابن رشيق، في البداية، عند هذه الصورة متشككا في صحة أن يكون ما بين امرئ القيس وطرفة مواردة، " لأن طرفة في زمان عمرو بن هند شاب حول العشرين، وكان امرؤ القيس في زمان المنذر الأكبر كهلا واسمه وشعره أشهر من الشمس". لكن يبدو في الأخير أنه اعتبر الخبر محتمل الصحة بالنظر إلى قول عمرو بن العلاء حين سئل:
" أرأيت الشاعرين يتفقان في المعنى ويتواردان في اللفظ لم يلق واحد منهما صاحبه ولم يسمع شعره؟ فقال : تلك عقول الرجال توافت على ألسنتها، وسئل أبو الطيب عن مثل ذلك فقال: الشعر جادة وربما وقع الحافر موضع الحافر" .
ويبدو أن عدم اقتناع ابن رشيق بدخول المواردة ضمن مباحث السرقة الشعرية وأنواعها، جعله لم يقف عندها كثيرا في " العمدة" ولم يحشد لها أمثلة خلا النقاش الذي أجراه حول مواردة امرئ القيس وطرفة، وحتى بالعودة إلى " قراضة الذهب" فإننا سنلاحظ أنه لم يهتم بهذا المصطلح، ووجدناه يتحدث عن اتفاقات الشعراء فيما بينهم باحثا لهم عن أعذار مع إيراد بعض الشواهد والأمثلة مما كان فيها الاتفاق في بيت أو بعض بيت.
ومن الاعتذارات التي كان يجدها للشعراء قوله في بيت ابن المعتز واصفا روضة:
تبدو إذا جاد السحاب بقطره فكأنما كانا على ميعــــاد

فقال ابن رشيق : " وهذا لا يكون سرقة لأنها تكون فاضحة ولا يكون اتفاقا من غير قصد لأن القصيدة مشهورة ولا يمكن لإبن المعتز أن يقول لم أسمعها للأسود بن يعفر" .
ومن اعتذاراته أيضا أن الإتفاق بين الشعراء قد يكون بسبب النسيان" يمر الشعر بمسمعي الشاعر لغيره فيدور في رأسه ويأتي عليه الزمان الطويل فينسى أنه سمعه قديما. فاما إذا كان للمعاصر فهو أسهل على أخذه إذا تساويا في الرقة والإجادة وربما كان ذلك اتفاق قرائح وتحكيكا من غير أن يكون أحدهما أخذ من الآخر ".
والواقع أن ابن رشيق كان يستحضر دائما قول أبي عمرو بن العلاء حين سئل عن بيتي امرئ القيس وطرفة، نجد ذلك في " العمدة" كما نجده في " القراضة".

4-1-2 الاشتراك في اللفظ المتعارف:

وهذه الصورة قريبة من المواردة، لأننا نجد اللفظ نفسه يتكرر بين الشعراء.إلا أن الفارق، على ما يبدو، هو أن في المواردة يكون القسيم من الشعر مشتركا بين شاعرين بعينهما لا غير، بينما في صورة " الاشتراك في اللفظ المتعارف" يشترك في القسيم أكثر من شاعر حتى يكتسب فعلا صفة الذيوع، ومثال ذلك
- قول عنترة :
وخيل قد دلفت لها بخيل عليها الأسد تعتصر اهتصارا

- وقول عمرو بن معدي كرب:
وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينــهم ضرب وجيع

- وقول الخنساء ترثي أخاها صخرا:د
وخيل قد دلفت لها بخيل فدارت بين كبشيها رحـاها

- ومثله:
وخيل قد دلفت لها خيل ترى فرسـانها مثل الأسـود

وذهب ابن رشيق إلى أن هذه الصورة مما يعد سرقة وهو ليس كذلك، وإنما هو اشتراك اللفظ المتعارف.

4-1-3 الإتفاق في قصة تقتضي صفة بعينها:

وقد اعتبر ابن رشيق هذه الصورة مما لا يعد سرقة عند قوله:
" ومما لا يعد سرقة أن تتفق قصة تقتضي صفة بعينها كالذي وقع لنا في رثاء السيدة الجليلة من ذكر حلق الشعور ولبس المسوح، وفي رثاء ابن زمام الدولة من موافقة الكسوف وقد بينت ذلك في رسالة " كشف المساوي" ومن الأمثلة التي ساقها ابن رشيق بيتان أحدهما لأبي سعيد الرستمي في دار بناها الصاحب بن عباد والآخر لأبي القاسم بن هاني في جعفر بن علي بالمغرب.
-فقال الأول:
متى ترها خلت السماء سرادقا عليها وأعلام النجوم تماثلا

- وقال الثاني :
فكأنما ضرب السماء سرادقا بالزاب أو رفع النجوم قبابا

فعلق ابن رشيق على البيتين بقوله : " فهذا اتفاق لا محالة لأنهما متعاصران وابن هاني أقدمهما على كل حال" .
والملاحظ أن قول ابن رشيق باتفاق الشعراء، وبخاصة إذا اتفقا في قصة تقتضي الصفة بعينها لا يقتضي أخذه على إطلاقه،لأن السرقة فيه تكون فعلا قائمة، حينئذ يعتبرها " من قبح الأخذ وفاضح السرقة". ويمثل لذلك بقول ابن الرومي في رجز يصف فوارة فقال :" بعين يقضى وبجيد ناعسه".

فقال ابن المعتز في المنسرح يصف فوارة:
بعين يقظى وجيد ناعسة طال عليها الوقوف والسهر

وهنا قد يطرح السؤال ترى كيف يمكن لنا أن نميز بين الحالات التي يكون فيها الاتفاق سرقة والحالات التي لا يكون فيها كذلك؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد لنا من التمعن في التعليق القصير والموجز الذي ذيل به ابن رشيق بيت ابن المعتز فقال :
" وهو في زمانه وبلده واشتهاره غير خاف" . فيتضح حينئذ أن المعيار عند ابن رشيق هو حدوث المعاصرة بين الشاعرين، والإقامة في البلد الواحد، واشتهار أحدهما من الآخر. وبهذا يكون ابن رشيق قد أخذ بأحد الأحكام العامة التي كان النقاد يقضون بها وأشار إليها بقوله في مصدر آخر: " وكانوا يقضون في السرقات أن الشاعرين إذا ركبا معنى كان أولهما به أقدمهما موتا وأعلاهما سنا، فإن جمعهما عصر واحد كان ملحقا بأولهما بالإحسان، وإن كانا في مرتبة واحدة روي لهما جميعا، وإنما هذا فيما سوى المختص الذي حازه قائله واقتطعه صاحبه" .
وابن رشيق في هذا النص، لم يكن مجرد ناقل أو متبع، بل كان ناقدا متفحصا إذ لم يترك ذلك الحكم على إطلاقه بل خصه وجعل معاييره لا تصدق إلا على سوى المختص من المعاني- أي ما شاع واشتهر- أما المعاني الخاصة فهي لقائلها دون غيره. وبهذا يمكننا أن ندخل فيما يعتبره ابن رشيق، فعلا ، سرقة، ويضع لها أحكاما ومقاييس لمعرفة الجيد منها والرديء.

4-2 الصور الحقيقية للسرقة الشعرية وأحكامها:

لا شك أن الحديث عن السرقة الشعرية وتصنيفها إلى جيدة ورديئة أمر قد سبق إليه كثير من النقاد، ومن بينهم أبو محمد الحسن بن علي ين وكيع التنيسي ( 393هـ) في كتابه " المنصف" فجعل السرقات الحسنة عشرة وأخرى ضدها .أما ابن رشيق فلم يصنف السرقات بهذا الشكل. وقد سبق لنا أن حددنا منهجه في تصنيف أنواعها. فقلنا إن هذا الجانب المعياري لا نلمسه في " العمدة " إلا في آخر ما كتب عن الموضوع. إلا أن القارئ لـ " قراضة الذهب" لا محالة مشبع رغبته وواجد ضالته، ولكن من غير تبويب بارز. و سنحاول هنا تقديم بعض صور وأحكام السرقة عند ابن رشيق اعتمادا على هذين المصدرين معا.




4-2-1 نظم النثر وحل الشعر:

لقد اعتبر ابن رشيق أن نظم النثر وحل الشعر من أجل السرقات. ولم يبين في العمدة سبب ذلك، واكتفى بإعطاء بعض النماذج منه، ثم علق عليها في الأخير بقوله: " فما جرى هذا المجرى لم يكن على سارقه جناح عند الحذاق، وفي أقل ما جئت به كفاية" .
وقد حاولنا الرجوع إلى بعض المصادر النقدية العربية القديمة علنا نفهم هذا الموقف، فوجدناه عند أحد النقاد الذين أحسوا بأزمة الشاعر المحدث، وحاولوا أن يساعدوه على تجاوز أزمته بتلقينه أسرار الصناعة ومن ذلك قول ابن طباطبا العلوي :
" ويحتاج من سلك هذه السبيل إلى ألطاف الحيلة وتدقيق النظر في تناول المعاني واستعارتها وتلبيسها حتى تخفى على نقادها و البصراء بها، وينفرد بشهرتها كأنه غير مسبوق إليها، فيستعمل المعاني المأخوذة في غير الجنس الذي تناولها منه (..) وإن وجد المعنى اللطيف في المنثور من الكلام، أو في الخطب والرسائل فتناوله وجعله شعرا كان أخفى وأحسن" .
فالغاية إذن من نظم النثر وحل الشعر هو إخفاء السرقة. ومتى أجاد الشاعر في ذلك فقد أحسن وانفرد بشهرة المعاني التي أخذها، ولعل هذا هو السبب الذي جعل ابن رشيق يعد نظم المنثور من السرقة المغتفرة . وبخاصة إذا زاد فيها الشاعر فحسنه. ومن ذلك :
قالت امرأة لبشار : " أنت القائل"

تحت ثيابي جسد ناحل لو هبت الريح بـ طارا

قال : "نعم" قالت " وأنت بهذا السمن كأنك تل" قال : " هذا ورم الحب يا بظراء"
أخذه أبو الطيب فقال في سيف الدولة:
أعيدها نظرات منك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

4-2-2 التلفيق أو الالتقاط:

عرفه ابن رشيق هذه الصورة بقوله :" وإن ألف البيت من أبيات قد ركب بعضها من بعض فذلك هو الالتقاط والتلفيق" .
ثم عرفه مرة أخرى في القراضة فقال : " وهو أن يميز الشاعر المعاني المتقاربة ويستخرج منها معنى مولدا يكون له كالاختراع وينظر به جميعها فيكون وحده مقام جماعة من الشعراء. وهو مما يدل على حذق الشاعر وفطنته. ولم أر ذلك أكثر منه في شعر أبى الطيب وأبي العلاء المعري فإنهما بلغا فيه كل غاية ولطفا كل لطف. وكان أبو الطيب أجمع الناس لكثير من المعاني في قليل من اللفظ وبذلك تقدم عند الفضلاء" .
ويبدو أن ابن رشيق كان معجبا بهذه الصورة من صور السرقات حتى انه اعتبرها مما يدل على حذق الشاعر وفطنته. وإذا تأملنا النص الثاني جيدا علمنا أن معيار هذا الحذق وهذه الفطنة هو القدرة على استخراج المعنى المولد الذي يكون بمثابة الاختراع وبخاصة إذا بلغ فيه الشاعر غايته وتلطف فيه وأوجز.
وإذا كان ابن رشيق قد اكتفى بمثال واحد من هذه الصورة في العمدة، فقد توسع فيها كثيرا في القراضة. وجل أمثلته من شعر أبي العلاء المعري والمتنبي. ومنها قوله : " واتى أبو العلاء على قول النابغة الذبياني في صفة الخيل وعرقها:

ينضحن نضح المزاد الوفر أتأقها شد الرواة بماء غير مشروب

يريد ينضحن بماء غير مشروب وهو العرق نضح المزاد، وإلى قول الفرزدق يصف قوسا:
ووفراء لم تخرز بسير وكيعة غدوت بها طيا يدي برشائها

كأنه يصف مزادة ودلوا، وإلى قول منصور النمري يصف إبلا:
ركبن الدجى حتى نزحن غماره ذميلا ولم تنزح لهن غروب

فاستخرج من بينها قوله في صفة اقبل وقد أعيت:
كأنهن غروب ملؤها تعب فهن يمتحن بالأرسان تقويدا

وهذا من سحر بلاغته ولطيف صنعته ولا سيما قوله: ملؤها تعب، وقوله يمتحن بالأرسان" .

4-2-3 كشف المعنى وإبرازه والزيادة فيه:

لم يعرف ابن رشيق هذه الصورة وإنما اكتفى بإيراد أمثلة منها، وجعلها من محاسن باب السرقة، أورد مثالا واحدا في العمدة من شعر امرئ القيس وعبدة بن الطيب ، وعدة أمثلة في القراضة من بينها قوله:
" ومن محاسن هذا الباب إبراز المعنى وحذف الفضول كقول الأول أنشده ابن قتيبة:
ولو تكثف الأضلاع ألفي تحتها لسعدى بأوساط الفؤاد مطارب
لها نعم من ماثل الحب واضــع بمجتمع الأشواق باد وقـارب

(...) وأخذ هذا المعنى ابن الرومي وأحسن ما شاء أن يحسن:
ديار التي أرعيتها بارض الهوى وأمطرته وسمــي دمعي أولا
جعلت لها صدري مرادا تروده وبوأتها من حبة القلب منزلا

فهذا هو الأول بعينه وزيادة وأنت ترى ما بين العبارتين من الاختلاف" . ففضل هذه الصورة إذن هو الزيادة في كشف المعنى وإبرازه حتى أصبح الشاعر الثاني أحق به. ومن الزيادات المليحة أيضا التي أوجبت لصاحبها الفضيلة قول الفرزدق:
كلتا يديه يمين غير مخلفة تزجي المنايا وتسقي المجدب المطرا

أخذه ابن المعتز أخذ الحذاق فقال في علي والعباس رضي الله تعالى عنهما:
مثل عبـــاس علي كيد أخت يــــد
لا تقل يمنى ويسرى فهما من أحمـــد

فعلق ابن رشيق قائلا :" فزاد هذه الزيادة الصحيحة المليحة " . فعلمنا حينئذ أن الزيادة وحدها غير كافية بل لا بد لها من صفة كالصحة والملاحة وبعكس صور الزيادة نجد الاختصار كالآتي:
4-2-4 الاختصار يستوجب الأخذ:

وفي ذلك يقول ابن رشيق:
" ومما اختصر لفظه واستوجبه الآخذ قول بشار:
من راقب الناس لم يظفر بحاجة وفاز بالطيبات الفاتك اللهج

أخذه سلم الخاسر فقال واختصره اختصارا لطيفا استوجبه به :
من راقب الناس مات غما وفــاز باللذة الجســـور" .

4-2-5 سوء الاتباع:

وإذا كانت الصور الأربعة المتقدمة كلها في جودة الاتباع فإن هذه الصورة الخامسة تعبر عن الجانب السلبي منه. وقد عرفها ابن رشيق بقوله :
" وسوء الاتباع أن يعمل الشاعر معنى رديئا ولفظا رديئا مستهجنا ثم يأتي من بعده فيتبعه فيه على رداءته" .
وقد مثل له بقول أبي تمام:
باشرت أسباب الغنى بمدائح ضربت بأبواب الملوك طبولا

فقال أبو الطيب :
إذا كان بعض الناس سيفا لدولة ففي الناس بوقات لها وطبولا

خاتمة :
وعلى العموم فقد أجمل ابن رشيق صور هذا المبحث وأحكامه فقال :
" والمخترع معروف له فضله، متروك له من درجته، غير أن المتبع إذا تناول معنى فأجاد- بأن يختصره إن كان طويلا، أو يبسطه إن كان كزا، أو يبينه إن كان غامضا، أو يختار له حسن الكلام إن كان سفسفا، أو رشيق الوزن إن كان جافيا فهو أولى به من مبتدعه، وكذلك قلبه أو صرفه إلى وجه آخر، فأما إذا ساوى المبتدع فله فضيلة حسن الاقتداء لا غيرها. فإن قصر كان دليلا على سوء طبعه وسقوط همته، وضعف قدرته" .
فهذا النص يضعنا أمام صنفين من الشعراء : مخترع ومتبع، ودرجة المخترع مصونة في أعلى السلم ثم يأتي بعده المتبع في صور ثلاث فهو:
- إما متبع مجيد فيكون أولى بالمعنى من مبتدعه.
- وإما مساو للمبتدع فتكون له فضيلة حسن الاتباع والاقتداء فقط.
- وإما مقصر، فيعبر بذلك عن ضعف شاعر يته.
ونجد هذا التصور التراثي للشعراء، المحكوم بمبدأي الإبداع والاتباع، عند ناقد شاعر تونسي آخر هو حازم القرطاجني مع بعض الفرو قات المميزة جاء فيه: « فمراتب الشعراء فيما يلمون به من المعاني إذن أربعة: اختراع واستحقاق وشركة وسرقة. فالاختراع هو الغاية في الاستحسان، والاستحقاق تال له، والشركة منها ما يساوي الأخير فيه الأول فهذا لا عيب فيه، ومنها ما ينحط فيه الآخر عن الأول فهذا معيبا والسرقة كلها معيبة وإن كان بعضها أشد قبحا من بعض" .
وبهذا المنظور يعطينا كل من ابن رشيق وحازم القرطاجني تصورات ومواقف من السرقة الشعرية في منطقة الغرب الإسلامي، وإننا لنجد في الشرق من النقاد من كان أكثر تسامحا في موضوع السرقة، ويعتذر لأهل عصره،لإحساسه بأزمة الشاعر المحدث كما أحسها ونظر لها من قبل ابن طباطبا العلوي ثم القاضي عبد العزيز الجرجاني من بعده. وكل عبر عنها بطريقته وحاول أن يجد لها حلا ضمن مشروعه النقدي .

قائمة المصادر والمراجع
المصـــــادر

1- الآمدي، الحسن بن بشر، الموازنة بين الطائيين(1-2) تحقيق السيد صقر، ط. القاهرة.
2- الحاتمي محمد بن الحسن، حلية المحاضرة، تحقيق جعفر الكتاني.
3- حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 3. 1981.
4- ابن حجة الحموي، خزانة الأدب وغاية الأرب، شرح عصام شعيتو، دار ومكتبة الهلال، بيروت، ط. 1 . 1987.
5- ابن رشيق القيرواني- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط.5. 1981.
6- ولابن رشيق أيضا قراضة الذهب في نقد أشعار العرب، تحقيق الشاذلي بو يحيى، الشركة التونسية للتوزيع، تونس 1972.
7- ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، تحقيق محمود محمد شاكر. ط.دار المعارف بمصر.
8- ابن طباطبا العلوي، عيار الشعر، تحقيق عبد الستار، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1982.
9- أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، شرحه وكتب هوامشه يوسف الطويل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط.1. 1986.
10- القاضي عبد العزيز الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق أبو الفضل إبراهيم البجاوي.
11- ابن منظور، لسان العرب، دار صادر،بيروت.
المــــراجع :
12- إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الثقافة، بيروت، ط4، 1983.
13- خير الدين الزركلي، الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، ط 11. 1995.
14- الكفوي أبو البقاء أيوب، الكليات، مؤسسة الرسالة، ط. 1. 1992.

http://www.shatharat.net/vb/showthread.php?t=12110 

تحميل كتاب الرياضيات نظرية حساب التفاضل و التكامل pdf

تحميل كتاب الرياضيات نظرية حساب التفاضل و التكامل pdf  من هنا :  https://bit.ly/2Zv2h9u